هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ- وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم- بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ماتوا، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم: أَمْواتٌ وعدل سبحانه عن- قتلوا- المعبر عنه في آل عمران إلى يُقْتَلُ روما للمبالغة في النهي، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين، والآية نزلت- كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عطف على قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا إلخ عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم، وهو محال من اللطيف الخبير- والخطاب عام لسائر المؤمنين- وقيل: للصحابة فقط، وقيل:
لأهل مكة فقط.
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ أي بقليل من ذلك، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة.
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ عطف إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل وإما على الْخَوْفِ ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت بِشَيْءٍ والمراد من الْخَوْفِ خوف العدو، ومن الْجُوعِ القحط إقامة للمسبب مقام السبب- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن نقص الْأَمْوالِ هلاك المواشي، ومن نقص الْأَنْفُسِ ذهاب الأحبة بالقتل والموت، ومن نقص الثَّمَراتِ تلفها بالجوائح، ونص عليها مع أنها من الْأَمْوالِ لأنها قد لا تكون مملوكة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
الْخَوْفِ خوف الله تعالى وَالْجُوعِ صوم رمضان، والنقص من الْأَمْوالِ الزكوات والصدقات، ومن الْأَنْفُسِ الأمراض، ومن الثَّمَراتِ موت الأولاد، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل، كما يقال: ثمرة العلم العمل.
وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»
واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة- وهي النمو والزيادة- بالنقص، «وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات، وكذا الأمراض، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان، والتعبير عن الزكاة- بالنقص- لكونها نقصا صورة- وإن كانت زيادة معنى- فعند الابتلاء سماها نقصا، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل أداؤها وَبَشِّرِ