الصَّابِرِينَ
خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية- والجامع ظاهر- كأنه قيل: الابتلاء حاصل لكم- وكذا البشارة- ولكن لمن صبر منكم. وقيل: على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر، وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى:
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها، كما
في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة»
والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل- قليلا كان المكروه أو كثيرا- حتى لدغ الشوكة، ولسع البعوضة، وانقطاع الشسع، وانطفاء المصباح، وقد استرجع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك
وقال: «كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر»
وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه، وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي، ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها، ويتذكر نعم الله تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، والاسترجاع من خواص هذه الأمة،
فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم، أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون» وفي رواية «أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفا على يوسف»
ويسن أن يقول بعد الاسترجاع: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها،
فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني إلخ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
ومفعول بَشِّرِ محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل- بدليل قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة، وقيل: الثناء، وقيل:
التعظيم، وقيل: المغفرة، وقال الإمام الغزالي: الاعتناء بالشأن، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار، ويخالف ما
روي «نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة»
وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم معناها، وأتي بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام، وجمع صَلَواتٌ للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة، وقيل: للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في «لبيك وسعديك» وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم- ومن- ابتدائية، وقيل تبعيضية، وثم مضاف محذوف أي من صَلَواتٌ ربهم، وأتي بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة.
فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا «من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه»
وأُولئِكَ إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما