فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: ١] وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا. ثم قال: وأما ما قيل من أن ضمير أَكْثَرُهُمْ لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية ومؤمن آل فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥] فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا وإخراجهم منها آخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكى عنهم من الجنايات أصلا مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. ورجوع ضمير أَكْثَرُهُمْ في قصة إبراهيم عليه السلام إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضا أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترءوا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما الله تعالى إلى الشام فتدبر اه.
وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه. أما أولا فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين.
وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق. وهذا أيضا مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب، وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير أَكْثَرُهُمْ إلى قوم نبينا صلّى الله عليه وسلّم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا سيما في القصص الآتية المصدرة بكذبت، وأما ثالثا فلأن قوله: لا بأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه السلام إلخ لا يخلو عن صعوبة إذ الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما. وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس وأما رابعا فلأن قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن. ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط عليه السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم. وما في قصة نبي الله تعالى شعيب عليه السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال: إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الأول وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات.
أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا، وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال: وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة والسلام مفصلة