قبل نزول هذه الآية مع أن كون حكايته صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعا محل تردد، وأما رابعا فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى: وَأَنْجَيْنا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا وكذا آخر قصة لوط عليه السلام قوله تعالى: فَنَجَّيْناهُ [الشعراء: ١٧٠] ثُمَّ دَمَّرْنَا [الشعراء: ١٧٢] وأَمْطَرْنا [الشعراء:
١٧٣] فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها. وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: ١٠٥] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١] وقوله عز وجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في جوابهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: ١١٤] فيكون ضمير أَكْثَرُهُمْ راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك. ومثله كثير في الكلام ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحدا أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط عليه السلام فتأمل انتهى، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين.
وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلّى الله عليه وسلّم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاء لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى.
وأختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شؤونه عز وجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم. وكذا الكلام في كانَ وما يتعلق بالجملة.
والكلام في قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كالكلام فيما تقدم أيضا، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزل من الكلام.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ نادى إلخ أي اذكر ذلك لقومك واتل عليهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم. وتغيير الأسلوب لمزيد الاعتناء بأمر هذه القصة لأن عدم الإيمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن إبراهيم عليه السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب إليه والتأسي به عليه السلام إِذْ قالَ منصوب على الظرفية لنبأ على ما ذهب إليه أبو البقاء أي نبأه وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أو على المفعولية لأتل على أنه بدل من نبأ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي اتل عليهم وقت قوله لهم ما تَعْبُدُونَ على أن المتلو ما قاله عليه السلام لهم في ذلك الوقت. وضمير قَوْمِهِ عائد على إبراهيم، وقيل: عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٧٤] ويلزم عليه التفكيك.
وسألهم عليه السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه السلام قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: ٣٠] ويَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ