للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إظهار ما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم به في قولهم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ تلطفا في فتح باب الإجابة، وقيل: لدفع توهم الخلق فيه المتجاوز أو الحدة، وقيل: إنه خبر لم يقصد منه الإعلام أصلا وإنما أورد لغرض التحزن والتفجع كما في قوله:

قومي هم قتلوا أميم أخي ... فلئن رميت يصيبني سهمي

ويبعد ذلك في الجملة تفريع الدعاء عليهم بقوله تعالى: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً على ذلك أي أحكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة بمعنى الحكومة، وفَتْحاً مصدر، وجوز أن يكون مفعولا به على أنه بمعنى مفتوحا وهذه حكاية إجمالية لدعائه عليه السلام المفصل في سورة نوح وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من قصدهم أو شؤم أعمالهم، وفيه إشعار بحلول العذاب بهم فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ على حسب دعائه عليه السلام فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء بهم وبما يحتاجون إليه حالا كالطعام أو مالا كالحيوان.

والفلك يستعمل واحدا وجمعا، وحيث أتى في القرآن الكريم فاصلة استعمل مفردا أو غير فاصلة استعمل جمعا كما في البحر ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجائهم، وثُمَّ للتفاوت الرتبي، ولذا قال سبحانه بعد الْباقِينَ أي من قومه.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الكلام فيه نظير الكلام فيما تقدم، وكذا الكلام في قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ بيد أن تأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى، وكثيرا ما يعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة بالأب وقد يعبر عنها ببني أو بآل مضافا إليه فيقال:

بنو فلان أو آل فلان، وكذا الكلام في قوله سبحانه:

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وحكاية الأمر بالتقوى والإطاعة ونفي سؤال الأجر في القصص الخمس وتصديرها بذلك للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم السلام مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والإعصار وأنهم عليهم السلام منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية.

ولعله لم يسلك هذا المسلك في قصتي موسى وإبراهيم عليهما السلام تفننا مع ذكر ما يشعر بذلك، وقيل: إن ما ذكر ثمة أهم وكانت منازل عاد بين عمان وحضرموت وكانت أخصب البلاد وأعمرها فجعلها الله تعالى مفاوز ورمالا، ويشير إلى عمارتها قوله تعالى أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي طريق كما روي عن ابن عباس وقتادة.

وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن الريع الفج بين الجبلين وعن أبي صخر أنه الجبل والمكان المرتفع عن الأرض وعن عطاء أنه عين الماء والأكثرون على أنه المكان المرتفع وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومنه ريع النبات وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء.

وقرأ ابن أبي عبلة «ريع» بفتح الراء آيَةً أي علما كما روى عن الحبر رضي الله تعالى عنه، وقيل: قصرا عاليا مشيدا كأنه علم وإليه ذهب النقاش وغيره واستظهره ابن المنير ويمكن حمل ما روي عن الحبر عليه وحينئذ فقوله تعالى: تَعْبَثُونَ على معنى تعبثون ببنائها لما أنهم لم يكونوا محتاجين إليها وإنما بنوها للفخر بها. والبعث مالا فائدة فيه حقيقة أو حكما، وقد ذم رفع البناء لغير غرض شرعي في شريعتنا أيضا، وقيل: إن عبثهم في ذلك من حيث إنهم

<<  <  ج: ص:  >  >>