الكشف بأنه لا إشكال في نحو من أين أنت؟ لأن التقدير أمن البصرة أم من الكوفة مثلا ولا يخفى أنه لا يحتاج على ما حققه النحاة إلى جميع ذلك، وجملة عَلى مَنْ تَنَزَّلُ إلخ في موضع نصب بأنبئكم لأنه معلق بالاستفهام وهي إما سادة مسد المفعول الثاني إن قدرت الفعل متعديا لاثنين ومسد مفعولين إن قدرته متعديا لثلاثة، والمراد هل أعلمكم جواب هذا الاستفهام- أعني على من تنزل الشياطين- وأصل تنزل تتنزل فحذف إحدى التاءين. والكلام على معنى القول عند أبي حيان كأنه قيل: قل يا محمد هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أي كثير الإفك وهو الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم، وكُلِّ للتكثير وجوز أن تكون للإحاطة ولا بعد في تنزلها على كل كامل في الإفك والإثم كالكهنة نحو شق بن رهم بن نذير وسطيح بن ربيعة بن عدي، والمراد بواسطة التخصيص في معرض البيان أو السياق أو مفهوم المخالفة عند القائل به قصر تنزلهم على كل من اتصف بما ذكر من الصفات وتخصيص له بهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزهة عن أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنزلهم عليه عليه الصلاة والسلام يُلْقُونَ أي الأفاكون السَّمْعَ أي سمعهم إلى الشياطين، وإلقاء السمع مجاز عن شدة الإصغاء للتلقي فكأنه قيل: يصغون أشد إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون وَأَكْثَرُهُمْ أي الأفاكين كاذِبُونَ فيما يقولونه من الأقاويل، والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الإطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل.
وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادرا في بعض الأحايين، وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع وإلقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقى الأفاكون إلى الناس المسموع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جدواه على ما قيل. واختلف في سبب كون أكثر أقوالهم كاذبة فقيل: هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنونا وأمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم مع ذلك يضم الأفاكون إليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع، وقبل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضمهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوجون إليهم في الفهم عن الملائكة عليهم السلام لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم السلام أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر. وقيل: هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تخطفه الشياطين عند استراقهم السمع من الملائكة ويلقونه إليهم.
فقد أخرج البخاري ومسلم وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سأل أناس النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا قال: تلك الكلمة من الحق (١) يحفظها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة
، وقيل: هو قبل البعثة وبعدها كثرة
(١) ورواية من الجن بجيم ونون بدله رواية صحيحة اهـ منه بزيادة.