إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي جزاء سقيك على أن ما مصدرية ولا يجوز أن تكون موصولة لأن ما يستحق عليه الأجر فعله لا ما سقاه إذ هو الماء المباح وأسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة. وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى.
روي أنه عليه السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت.
وفي رواية أن قال لها كوني ورائي فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا أو يسارا
،
وروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولا أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام.
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص، فإنه مصدر سمي به المفعول كالعلل قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد فرعون وقومه، وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بأرضه، ويحتمل أنه قاله عن إلهام أو نحوه، واختلف في الداعي له عليه السلام إلى الإجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعا بما صرحت به من الأجر، ألا ترى إلى ما
أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء فقال له شعيب: كل. قال موسى. أعوذ بالله تعالى. قال: ولم ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل،
وقيل: الداعي له ما به من الحاجة وليس بمستنكر منه عليه السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة.
فقد أخرج الإمام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما والله لو كان عند نبي الله تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد، واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه السلام رغبة بالجزاء بما روي عن عطاء بن السائب أنه عليه السلام رفع صوته بقوله: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ليسمعهما، ولذلك قيل له ليجزيك إلخ، وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر، ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه السلام قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته، ولا أقول إن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الأجر على عمل الآخرة أو مستلزمة لها، ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء، وعمله عليه السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية، ويعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى إذا كان كذلك، ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع قالَتْ إِحْداهُما وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما السلام يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي لرعي الأغنام والقيام بأمرها، وأصل الاستئجار كما قال الراغب طلب الشيء بالأجرة ثم عبر به عن تناوله بها وهو المراد هنا. وكذا في قوله سبحانه: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وهو تعليل جار مجرى الدليل على أنه عليه السلام حقيق بالاستئجار المفهوم من طلب استئجاره، وبعضهم رتب من الآية قياسا من الشكل الأول هكذا هو قوي أمين وكل قوي أمين لائق بالاستئجار ينتج هو لائق بالاستئجار وهو المدعى المفهوم من الطلب، وتعقب بأن هذا ظاهر لو كان خير خبرا وليس هو كذلك، وأجيب بأن المعنى على ذلك إلا أنه جعل اسما للاهتمام بأمر الخيرية لأنها أم الكمال المبني عليها غيرها. وفي الكشاف فإن قيل: كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن والقوي الأمين خبرا؟ قلت: هو مثل قوله: