وقرأ أبو حيوة والأعمش بكسر السين وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من القرية على ما عليه الأكثر آيَةً بَيِّنَةً قال ابن عباس: هي آثار ديارها الخربة، وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض، وقال قتادة: هي الحجارة التي أمطرت عليهم وقد أدركتها أوائل هذه الأمة، وقال أبو سليمان الدمشقي: هي أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها إلى الآن وأنكر ذوو الأبصار ذلك، وقال الفراء: المعنى تركناها آية كما يقال: إن في السماء آية ويراد أنها آية. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتجه إلا على زيادة (من) في الواجب نحو قوله:
أمرهت منها جبة وتيسا يريد أمهرتها. وقال بعضهم: إن ذلك نظير قولك: رأيت منه أسدا، وقيل: الآية حكايتها العجيبة الشائعة، وقيل:
ضمير مِنْها للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة، أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر.
ولا يخفى معنى (من) على هذه الأقوال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، فالفعل منزل منزلة اللازم ولِقَوْمٍ متعلق بتركنا أو ببينة، واستظهر الثاني هذا، وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى، فهي كبيرة بالإجماع، ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا. وفي شرح المشارق للأكمل أنها محرمة عقلا وشرعا وطبعا، وعدم وجوب الحد فيها عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لعدم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها، وقال بعض العلماء: إن عدم وجوب الحد للتغليظ لأن الحد مطهر، وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف، ففي الفتح قيل: إن كانت حرمتها عقلا وسمعا لا تكون في الجنة وإن كانت سمعا فقط جاز أن تكون فيها والصحيح أنها لا تكون لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: ٢٨] وسماها خبيثة فقال عز وجل كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ [الأنبياء: ٧٤] والجنة منزهة عنها. وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثا في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة، وفيه بحث، لأن خبث الخمر في الدنيا لإزالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبيح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة. وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلا للقاذورات، وعليه فعدم وجودها في الجنة ظاهر، ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سرا أو علنا، وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجبر عليه وذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لا بد من حصول ما يشتهيه، وهذا وإن لم يكن قطعيا في عدم وقوع اللواطة مطلقا في الجنة إلا أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة المسبب مقام السبب، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، وجوز أن لا يقدر مضاف، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه، وقيل: الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية.
وقال أبو عبيدة: الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لأن العثو الفساد فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان، وقيل: من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك فَأَخَذَتْهُمُ بسبب تكذيبهم إياه الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة وفي سورة