بالاعتبار الأول فظاهر، وأما كونهم كذلك بالاعتبار الثاني فلأن غاية ما يلزم من عدم أميته صلّى الله عليه وسلم انتفاء أحد وجوه الإعجاز، ويكفي الباقي في الغرض فيكون المرتاب مبطلا كالمرتاب في نبوة الأنبياء الذين لم يكونوا أميين وصحة ما جاؤوا به.
والأول أظهر، وكون المراد بالمبطلين مشركي مكة هو المروي عن مجاهد، وقال قتادة: هم أهل الكتاب أي لو كنت تتلو من قبل أو تخط لارتاب أهل الكتاب لأن نعتك في كتابهم أمي، ووصفهم بالإبطال قيل: باعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي كما هو الواقع، وإلا فهم ليسوا بمبطلين في ارتيابهم على فرض عدم كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أميا، وفي الكشف هذا فرض وتمثيل دلالة على أن مدار الأمر على المعجز، وأن كونه عليه الصلاة والسلام أميا لا يخط ليس مما لا يتم دعواه به، وتلك الدلالة لا تختلف والمنكر مبطل اهـ فتأمل.
هذا واختلف في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال: إنه الأصح، وادعى بعضهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية. فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ،
وروى ابن أبي شيبة، وغيره: «ما مات صلى الله تعالى عليه وسلم حتى كتب وقرأ» .
ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه،
وروى ابن ماجة عن أنس قال:
«قال صلى الله تعالى عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر»
والقدرة على القراءة فرع الكتابة ورد باحتمال إقدار الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام عليها بدونها معجزة أو فيه مقدر وهو فسألت عن المكتوب فقيل: إلخ، ويشهد للكتابة أحاديث
في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث
، وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني، وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منية، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاة وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلّى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، وردّ بعض الأجلة كتاب الباجي لما
في الحديث الصحيح- إنا أمية لا نكتب ولا نحسب.
، وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان، وتقديم قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ على قوله سبحانه: وَلا تَخُطُّهُ كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة، وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته، ولا يخفى أن
قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب»
ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو كذا وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد، وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر، وفي شرح صحيح مسلم للنواوي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب