للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل: لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في أَنْكَرَ الْأَصْواتِ فتأمل، والظاهر أن قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت، وقيل: هو من كلام الله تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله:

وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزّ وجلّ أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال: صياح كل شيء تسبيحه إلّا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه. ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسبب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة، وقيل: الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده أن أمكنه عدم الرفع، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم إن الغض ممدوح إن لم يدع داع شرعي إلى خلافه، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال: إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال، وجعل قوله تعالى: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى.

وقرأ ابن أبي عبلة «أصوات الحمير» بالجمع بغير لام التأكيد أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد، والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا، وفي إرشاد العقل السليم المراد به أما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا، وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لَكُمْ لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله عزّ وجلّ وَأَسْبَغَ أي أتم وأوسع عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب، وفي معنى ذلك قولهم: هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون لله عز وجلّ على كافر نعمة، ونقل الطيبي عن الإمام أنه قال: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا: وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة استحقاق الذم والعقاب الحظر فأي امتناع في

<<  <  ج: ص:  >  >>