فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروي نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعليه لا مانع من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا الله عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم، فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى على الثبات والقتال إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت، والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتا بأن يكون قد استشهد كأنس بن النضر، ومعصب بن عمير، ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف أنفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك، وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من استشهد، وأوجبوا ذلك فيما
أخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وابن المنذر، وأبو نعيم وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال:«من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله مثله.
وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض، وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة»
وفي مجمع البيان عن أبي إسحاق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت فينا رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية وإنا والله المنتظر
، وفي وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة، وقيل: إلى الموت مطلقا حبا للقاء الله تعالى ورغبة فيما عنده عزّ وجلّ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عطف على صَدَقُوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، أما الذين قضوا فظاهر، وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة، وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم، وجوز أن يكون ضمير بَدَّلُوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم، وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الأدبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي الذين صدقوا ما عدوا الله تعالى عليه بِصِدْقِهِمْ أي بسبب صدقهم، وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليق الحكم بالمشتق اعتناء بأمر الصدق، ويكتفي بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه، والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم إِنْ شاءَ أي تعذيبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عزّ وجلّ كذا قيل: وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى. واستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: ١٤٥] وقد أخبر عزّ وجلّ أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقا حتما لا محالة فكيف هذا التعليق وأجيب بأنه لا إشكال فإن الله جلّ جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جلّ شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل: إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيها أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جلّ وعلا لم يشأ، ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي، وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب، وكأنه سبحانه