فبلغ الأمير كرّم الله تعالى وجهه خبر التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم، وأشار عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى رضي الله تعالى عنه ليقضي الله أمرا كان مفعولا فخرج كرّم الله تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريبا من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين، وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال: يا أماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة والزبير فقال القعقاع: أخبراني بوجه الصلاح قالا: إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سببا لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع: هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا: أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرّم الله تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به واستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرّم الله تعالى وجهه طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم واضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرّم الله تعالى وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك
القتلة بالغدر فالتحم القتال وركب الأمير متعجبا فرأى الوطيس قد حمي والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي لله تعالى عنه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب، وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقاة المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس، وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا يلتفت له، ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما
في نهج البلاغة المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرّم الله تعالى وجهه بعض أصحابه: لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا.
فحيث كان الخروج أولا للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الأمر بالاستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلا، وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه، ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها، بل أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا قرأت وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهذا كما أن الأمير كرّم الله تعالى وجهه أحزنه ذلك،
فقد صح أنه رضي الله تعالى عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم، وقال في ذلك مستهزئا كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها: