أي من حيوان يدب على الأرض لشؤم المعاصي، وقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥] وهو المروي عن ابن مسعود، وقيل: المراد بالدابة الإنس وحدهم وأيد بقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة فإن الضمير للناس لأنه ضمير العقلاء ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء نوعهم، وقيل: هو لجميع من ذكر تغليبا ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء جنس المخلوقات فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازي المكلفين منهم عند ذلك بأعمالهم إن شرا فشر وإن خيرا فخير، وجملة فَإِنَّ اللَّهَ إلخ موضوعة موضع الجزاء والجزاء في الحقيقة يجازي كما أشرنا إليه، هذا والله تعالى هو الموفق للخير ولا اعتماد إلا عليه.
ومن باب الإشارة الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى إيجاد عالمي اللطافة والكثافة وإلى أن إيجاد عالم اللطافة مقدم على إيجاد عالم الكثافة، ويشير إلى ذلك ما شاع خلق الله تعالى الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف سنة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا في إيصال أوامره إلى من يشاء من عباده أو وسائط تجري إرادته سبحانه في مخلوقاته على أيديهم أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ إشارة إلى اختلافهم في الاستعداد يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ عام في الملك وغيره، وفسرت الزيادة بهبة استعداد رؤيته عزّ وجلّ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ الزيادة المشار إليها وغيرها فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فيه إشارة إلى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه عزّ وجلّ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلم وإرشاد لورثته إلى الصبر على إيذاء أعدائهم لهم وتكذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جرت سنته تعالى في إحياء الأرض بهذه الكيفية كذلك إذا أراد سبحانه إحياء أرض القلب فيرسل أولا رياح الإرادة فتسير سحاب المحبة ثم يأتي مطر الجود والعناية فينبت في القلب رياحين الروح وأزهار البسط ونوار الأنوار ويطيب العيش.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إشارة إلى أن العزة الحقيقية لا تحصل بدون الفناء، ولا تغفل عن
حديث:«لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل»
إلخ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها وأكثفها ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وفيها نوع ما من اللطافة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً إشارة إلى ما حصل لهم من ازدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلي وهو مبدأ استعداد لوقوف على عوالم الغيب والشهادة وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ قيل أي بحر العلم الوهبي وبحر العلم الكسبي هذا أي بحر العلم الوهبي عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ لخلوه عن عوارض الشكوك والأوهام وَهذا أي بحر العلم الكسبي مِلْحٌ أُجاجٌ لما فيه من مشقة الفكر ومرارة الكسب وعروض الشكوك والتردد والاضطراب وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا إشارات لطيفة تتغذون بها وتتقوون على الأعمال وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وهي الأخلاق الفاضلة والآداب الجميلة والأحوال المستحسنة التي تكسب صاحبها زينة وَتَرَى الْفُلْكَ سفن الشريعة والطريقة فِيهِ مَواخِرَ جارية لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالوصول إلى حضرته عزّ وجلّ فعل ذلك يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في سائر شؤونكم، ومراتب الفقر متفاوتة وكلما ازداد الإنسان قربا منه عزّ وجلّ ازداد فقره إليه لازدياد المحبة حينئذ وكلما زاد العشق زاد فقر العاشق إلى المعشوق حتى يفنى وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فيه من البشارة ما فيه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أي العلماء به تعالى وبشؤونه فهم كلما ازدادوا علما ازدادوا خشية لما يظهر لهم من عظمته عزّ وجلّ وأنهم بالنسبة إليه تعالى شأنه لا شيء ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ