وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ إلخ. وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح أثر بيانه بطريق التمثيل، وفي الحواشي الخفاجية لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا انتهى.
وانظر هل تجد مانعا من العطف على لا يُبْصِرُونَ ليكون خبرا لهم أيضا داخلا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل: فهم سواء عليهم إلخ، واختلاف الجملتين بالاسمية والفعلية لا أراك تعده مانعا، وقوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه إِنَّما تُنْذِرُ أي إنذارا مستتبعا للأثر مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن ما روي عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به، وقيل: الوعظ، واتبع بمعنى يتبع، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: المراد من اتبع في علم الله تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم وَخَشِيَ الرَّحْمنَ أي عقابه ولم يغتر برحمته عزّ وجلّ فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: ٤٩] وأن عذابي هو العذاب الأليم.
ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه بِالْغَيْبِ حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسا بالغيب أي غائبا عنه، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله. ويجوز أن يكون حالا من فاعل خَشِيَ أي خشي عقاب الرحمن غائبا عن العقاب غير مشاهد له أو خشي غائبا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلما تسلم عن الرياء، وبعضهم فسر الغيب بالقلب وجعل الجار متعلقا بخشي أي خشي في قلبه ولم يكن مظهرا للخشية وليس بخاش، قيل: ويجوز جعله حالا من الرَّحْمنَ ولا يخفى حاله، والكلام في خشي على طرز الكلام في اتَّبَعَ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ عظيمة لما سلف، وقيل: لما يفرط منه وَأَجْرٍ كَرِيمٍ حسن لا يقادر قدره لما أسلف، والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. وفي البحر لما أجدت فيه النذارة فبشره إلخ فلا تغفل، وعن قتادة تفسير الأجر الكريم بالجنة والمراد نعيمها الشامل لما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأجل جميع ذلك رؤية الله عزّ وجلّ.
وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى إلخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفعين بالإنذار ترهيبا وترغيبا ووعيدا ووعدا، وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية، وما ألطف هذا الضمير الذي عكسه كطرده هاهنا، وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل، والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون: ٣٧] أي إنا نحن نحيي الأموات جميعا ببعثهم يوم القيامة وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة وَآثارَهُمْ التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنوه وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين.
أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر