جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله تعالى وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تعالى أن يرد عليه سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا: أتنكرن من سليمان شيئا؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فأمر الشياطين فكتبوا كتبا فيها سحر ومكر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرؤوها على الناس وقالوا:
بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فاكفر الناس سليمان وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان عليه السلام يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة، فدعا سليمان فحمل معه السمك إلى باب داره فأعطاه تلك السمكة فشق بطنها فإذا الخاتم فيه فأخذه فلبسه فدانت له الإنس والجن والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان إلى جزيرة في البحر فأرسل في طلبه وكان مريدا فلم يقدروا عليه حتى وجدوه نائما فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان فأمر فنقر له صندوق من رخام فأدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر. وذكر في سبب ذلك أنه عليه السلام كان قد غزا صيدون في الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته وهي جرادة المذكورة فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته وكان ذلك جائزا في شريعته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة فعوتب بذلك حيث تغافل عن حال أهله
. واختلف في اسم ذلك الشيطان فعن السدي أنه حبقيق وعن الأكثرين أنه صخر وهو المشهور، وإنما قال سبحانه: جَسَداً لأنه إنما تمثل بصورة غيره وهو سليمان عليه السلام وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان فلذا سميت جسدا وعبارة القاموس صريحة في أن الجسد يطلق على الجني.
وقال أبو حيان وغيره: إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها، وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى ووطئهن وهن حيض الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخبر إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها، وكذا لا تسلم دعوى قوة سنده إليه وإن قال بها من سمعت.
وجاء عن ابن عباس برواية عبد الرزاق وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعبا يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها على أن اشعار ما يأتي بأن تسخير الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى، ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام ويستبعد جدا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك الخاتم وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لذكره الله عزّ وجلّ في كتابه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقال قوم: مرض سليمان عليه السلام مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه جسد بلا روح وقد شاع قولهم في الضعيف: لحم على وضم وجسد بلا روح فالجسد الملقى على الكرسي هو عليه السلام نفسه.
وروي ذلك عن أبي مسلم وقال في قوله تعالى: ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى الصحة وجعل جَسَداً حالا من مفعول ألقينا المحذوف كأنه قيل ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وأمرضناه وألقيناه على كرسيه ضعيفا كأنه جسد بلا روح ثم رجع إلى صحته، ولا يخفى سقمه، والحق ما ذكر أولا في الحديث المرفوع، وعطف أَنابَ بثم وكان الظاهر الفاء كما في قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قيل إشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها فإن الممتد يعطف بها نظرا