للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأواخره بخلاف الاستغفار فإنه ينبغي المسارعة إليه ولا امتداد في وقته، وقيل: إن العطف بثم هنا لما أنه عليه السلام لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه وهذا بخلاف ما كان في قصة داود عليه السلام فإن العطف هناك على ظن الفتنة واللائق به أن لا يؤخر الاستغفار عنه، وقيل: العطف بها هنا لما أن بين زمان الإنابة وأول زمان ما وقع منه عليه السلام من ترك الاستثناء مدة طويلة وهي مدة الحمل وليس بين زمان استغفار داود عليه السلام وأول زمان ما وقع منه كذلك قالَ بدل من أَنابَ وتفسير له على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر. ويمكن أن يكون استئنافا بيانيا نشأ من حكاية ما تقدم كأنه قيل فهل كان له حال لا يضر معه مسح الخيل سوقها وأعناقها وهل كان بحيث تقتضي الحكمة فتنته؟ فأجيب بما أجيب وحاصله نعم كان له حال لا يضر معه المسح وكان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فقد دعا بملك عظيم فوهب له، ويمكن أن يقرر الاستئناف على وجه آخر، وكذا يمكن أن يكون استئنافا نحويا لحكاية شيء من أحواله عليه السلام فتأمل رَبِّ اغْفِرْ لِي ما لم أستحسن صدوره عني.

وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي لا يصح لأحد غيري لعظمته فبعد هنا نظير ما في قوله تعالى:

فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] أي غير الله تعالى، وهو أعم من أن يكون الغير في عصره، والمراد وصف الملك بالعظمة على سبيل الكناية كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان في الناس أمثاله تريد أن له من ذلك شيئا عظيما لا أن لا يعطى أحد مثله ليكون منافسة، وما

أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتا جعل يتفلت علي البارحة ليقطع على صلاتي وإن الله تعالى أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرده الله تعالى خاسئا»

لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ إلخ، وقيل: إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها، ولعله إنما طلب عليه السلام ذلك ليكون علامة على قبول سؤاله المغفرة وجبر قلب عما فاته بترك الاستثناء أو ليتوصل به إلى تكثير طاعته لله عزّ وجلّ ونعمة الدنيا الصالحة للعبد الصالح فلا إشكال في طلب الملك في هذا المقام إذا قلنا بما يقتضيه ظاهر النظم الجليل من صدور الطلبين معا.

وقال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما فأراد أن يطلب من ربه عزّ وجلّ معجزة فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم ولن تكون معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقوله من بعدي بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق، وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الإلف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في عصره، ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوا به. ولما اشتهر الطلب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله. واعترض بأن اللائق بطلب المعجزة أن يكون في ابتداء النبوة وظاهر النظم الجليل أن هذا الطلب كان بعد الفتنة والإنابة كيف لا وقوله تعالى: قالَ إلخ بدل من أَنابَ وتفسير له والفتنة لم تكن في الابتداء كما يشعر به النظم. وأجيب بأنا لا نسلم أن اللائق بطلب المعجزة كونها في ابتداء النبوة وإن سلم فليس

<<  <  ج: ص:  >  >>