للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم جسما ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من آثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين. وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مر وإما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.

والسلف يقولون: اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عزّ وجلّ على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره، فقد ثبت في الصحيح أنه سبحانه قال في جواب الملائكة: اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خلق الله تعالى أربعا بيده: العرش وجنات عدن والقلم وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان

، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى: أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له: أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل: ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده.

وزعم الزمخشري أن خَلَقْتُ بِيَدَيَّ من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث إنّ إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقا امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلا ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز، وأيضا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه، وأيضا جعل سجود الملائكة لآدم راجعا إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل أَتَجْعَلُ فِيها وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذرا من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذ لا تدل على الأفضلية مطلقا حتى يلزم خرم مذهبه، ولعمري إنّ هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالا لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالا لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعا مع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام، وقرىء «بيدي»

<<  <  ج: ص:  >  >>