ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أقوى وذلك الأصل في حسن الاستئناف وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم، وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ولذا قيل:
شمّر وكن في أمور الدين مجتهدا ... ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها كما ذهب إليه الأشاعرة، وقوله تعالى:
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعو خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥] والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط فَأَنْتَ تُنْقِذُ إلخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله:
لقد علم الحزب اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها
لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول: أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والاستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقا والإنكار المفاد بالهمزة متعلق بمضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الإنقاذ هو الله عزّ وجلّ، وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في النظم الكريم لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والاجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها. وفي الحواشي الخفاجية نقلا عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الاستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى: أَفَمَنْ إلخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيلا بذله عليه الصلاة والسلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال: وقد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كما في نقض العهد انتهى فتأمل.
وقيل: إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيمان والطاعة وليس بذاك، وجوز أن يكون الجزاء محذوفا وجملة فَأَنْتَ تُنْقِذُ إلخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار.
ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار وتمثيل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها، نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان، واستظهر أبو حيان أن مَنْ موصولة مبتدأ والخبر محذوف، وحكي أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدره يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه، ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى، وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف