وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال: إن القول بأن كلا منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري فيما علمنا وفي المغني ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد.
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنين والكافرون وأحوالهما، والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة، والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض مَبْنِيَّةٌ قيل: هو كالتمهيد لقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات الْأَنْهارُ أي مبنية بناء يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحا واحدا يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقا وتحتا لكن لا بد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك.
وقال بعض الأجلة: الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية، وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين: فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا.
وأقول والله تعالى أعلم: وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه، وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولا مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ.
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الاغترار بزهرتها أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وأحكام حكمته ورحمته، والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو، وقيل: الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى، وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثير ما يرتفع سحاب ويمطر مطرا غزيرا وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضا على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله، وقيل: المراد بالماء كل ماء في الأرض، والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة وذلك أنه عزّ وجلّ لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر تحت العرش ماء فَسَلَكَهُ فأدخله يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني ليس منه، وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما يجري مجراها من الأبخرة قالوا:
إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاقها فانفجر منها العيون، ورده أبو البركات البغدادي فقال في المعتبر: السبب في العيون وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة