للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنذرين، وجعل ضمير «تفرقوا» لإخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر.

وقيل: ضمير تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا كقوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ٤] وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة والسلام لا لشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر الخطاب في أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ لأمته صلّى الله عليه وسلّم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى:

وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام انتهى.

وأجيب عن الأول بأن ضمير بَيْنَهُمْ لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهم لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا غي عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطلين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين في قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.

حكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشا والعلم محمد صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي قال سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الأنعام: ١٠٩، النحل: ٣٨، النور: ٥٣، فاطر: ٤٢] لئن جاءهم نذير الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم.

ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أحبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل:

ضمير بعدهم للمشركين أيضا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: «والأرض بعد ذلك دحاها» ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق اسْتَقِمْ الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير كِتابٍ المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لأسوّي بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما

<<  <  ج: ص:  >  >>