للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجعل قوله سبحانه: وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مؤذنا بالتعليل كأنه قيل: إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أن يختص برحمته وكرامته من يشاء من عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد، وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا مع قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الآية وزان قوله عزّ وجلّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: ٧، ١٠] وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التئام، ولا يقال حينئذ: إن قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ حكم مترتب على السابق فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر، وحديث التخصيص في يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فقد أجاب عنه صاحب التقريب فقال: إنما خصص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمة وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه. وأشار جار الله إلى أنه لا تخصيص بالحقيق فإن الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه. فيرزق من يشاء.

بيان لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق إلا النصيب الخاص لكل واحد، ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ كل الملاءمة، ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي، ولعل أمر التذييل بالاسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل: لطيف بعباده عام الإحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهر القدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الاسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] .

فكم لله من لطف خفي ... يدق خفاه عن فهم الذكي

والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري كلاهما عن أبي عمرو «يزد» و «يؤته» بالياء فيهما، وقرأ سلام «نؤته» بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا مجزوما قال أبو حيان: ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وانه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الاعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان، وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق:

دست رسولا بأن القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدورا ذات توغير

وقال أيضا:

تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ في الكفر وهم الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وأَمْ منقطعة فيها معنى بل الاضرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والاضراب عما سبق من قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ إلخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى، وتأخير الاضراب ليدل على أنهم في شرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل

<<  <  ج: ص:  >  >>