خلاف الظاهر كما لا يخفى لَمَّا جاءَهُمْ أي في وقت مجيئه إياهم، ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل: بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا، وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها، وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة، وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدا على الله تعالى فإن الكذب خصوصا عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في أَمْ المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم: هو سحر لعجزهم عنه، والضمير المنصوب في افْتَراهُ كما قال أبو حيان لِلْحَقِّ الذي هو الآيات المتلوة، وقال بعضهم:
للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه.
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز وجلّ من معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه، فجواب إِنِ في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولا كان أو فعلا مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله، وما أشرنا إليه من كون (ما) موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون (ما) مصدرية وضمير فِيهِ للحق أو للقرآن كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر، وبِهِ في موضع الفاعل- بكفى- على أصح الأقوال، وشَهِيداً حال وبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ متعلق به أو بكفى وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم جل شأنه ليتداركوا أمورهم قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي بديعا منهم يعني لست مبتدعا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤوا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها، فقد قيل: إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم ذلك، ونظير بدع الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة «بدعا» بفتح الدال، وخرج علي أنه جمع بدعة كسدرة وسدر، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والإخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضا.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم: دين قيم ولحم زيم أي متفرق. قال في البحر: ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض، وأما قول العرب: مكان سوي وماء روي ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر، وعن مجاهد وأبي حيوة «بدعا» بفتح الباء وكسر الدال وهو صفة كحذر.
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي في الدارين على التفصيل كما قيل.