والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن سيرين والضحاك وعكرمة في رواية ابن سعد. وابن عساكر عنه. وفي الكشف في جعله شاهدا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف شَهِدَ وما بعده على قوله تعالى: كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: ٩٠] أي أنذر قريشا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية، ومصب الإلزام في قوله تعالى: فَآمَنَ كأنه قيل: أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس، ففيه الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الإيمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الإيمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالما بما في التوراة وهذا يصلح جوابا مستقلا من غير نظر إلى الأول فافهم، وقول من قال: الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصا، وعلى الوجهين لا بد من تأويل قول سعد، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل: هو من النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى.
وتعقب قوله: إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها، وكون الشاهد ابن سلام لمكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام.
أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية
، وروي حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر، وهو أيضا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يا رسول الله ابعث إليهم- يعني اليهود- فاجعل بينك وبينهم حكما من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليا فقال لهم:
اختاروا رجلا من أنفسكم يكون حكما بيني وبينكم قالوا: فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون: لنشهد أنه رسول الله وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية
، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله أنه ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله والله تعالى أعلم.