من سفره»
وروى أبو داود سئل أبو ذر هل كان صلّى الله عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود
، وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا»
وأخرجاهما. وأحمد وابن حبان والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي»
ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع. وقرأ يحيى بن يعمر «أشدا» بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله:
لا بد من صنعا وإن طال السفر وقوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً خبر آخر- للذين- أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من تتأتى منه، ورُكَّعاً سُجَّداً حال من المفعول، والمراد تراهم مصلين، والتعبير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل، والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي، ومن هنا قال في البحر:
هذا دليل على كثرة الصلاة منهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي ثوابا ورضا، والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول تَراهُمْ أو من المستتر في رُكَّعاً سُجَّداً أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل: ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: يبتغون فضلا إلخ.
وقرأ عمرو بن عبيد «ورضوانا» بضم الراء سِيماهُمْ أي علامتهم وقرىء «سيمياؤهم» بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر:
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر
وجاء سيماء بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: فِي وُجُوهِهِمْ أي في جباههم أو هي على ظاهرها، وقوله سبحانه: مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود، ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود، وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي وثفنة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الاملاك رضي الله تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ، وما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعلبوا صوركم»
أي لا تسموها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر، وقول ابن عمر وقد رأى رجلا بأنفه أثر السجود: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذاك محض رياء ونفاق يستعاذ بالله تعالى منه، والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عز وجل، وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك.
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال: لقد أفسد هذا وجهه أما والله ما هي السيما التي سمى الله تعالى ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عينيّ، وربما يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدا لذلك فنفى أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمى الله تعالى، ونظيره ما حكي عن بعض المتقدمين قال: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض.