للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رفع الصوت فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة والسلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض، ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الأول مخصوص بمكالمته صلّى الله عليه وسلّم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم، ويفهم أيضا وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة والسلام، فأيا ما كان يكون المآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلّى الله عليه وسلّم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، ومن هنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة: «والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى» .

وفي رواية أنه قال: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى، وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري. وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه، وقيل: معنى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إلخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول، والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه، وكان الظاهر أن يقال مثلا: ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضا.

أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ تعليل لما قبله من النهيين على طريق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهي عنه، وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط، والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهي عنه، ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوط لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى، وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهي في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الأداء إلى حبوط العمل، وقراءة ابن مسعود. وزيد بن علي «فتحبط» بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الإحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبلها، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حال من فاعل تَحْبَطَ ومفعول تَشْعُرُونَ محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة، وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقا قد تحبط الأعمال الصالحة، ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير، والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري: قد دلت الآية على أمرين هائلين: أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام يحبط عمل المؤمن، والثاني أن في أعماله ما لا يدرى أنه محبط ولعله عند الله تعالى محبط.

وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسما للمادة، ثم لما كان هذا النهي عنه منقسما إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهرا يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وإلا فلو كان الأمر على

<<  <  ج: ص:  >  >>