للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق إذن فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا، ثم قال عليه الرحمة: وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة: إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام.

ثانيتهما أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر وهذا ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ولا تقبل توبته فما أتاه أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى.

وحاصل الجواب أنه لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي إلى الإحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الاستهانة فنهاهم عز وجل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون، وقيل: يمكن نظرا للمقام أن ينزل إذا همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظا إجلالا لمجلسه صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرتب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الإحباط كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إلى قوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: ٩٧] ومعنى وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ عليه وأنتم لا تشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي، ولا يتم بدون الأول، وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: ٨٦] مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف، وقال أبو حيان: إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلّى الله عليه وسلّم وغض الصوت عنده ان لو فعل ذلك كأنه قيل: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التكلف البارد، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاندا أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولى المسلمون يوم حنين: ناد أصحاب السمرة فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة، وكان رجلا صيتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة:

زجر أبي عروة السباع إذا ... اشفق أن يختلطن بالغنم

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم؟ فقال: لأنها ألفت صوته،

وروى البخاري ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ قال سعد: إنه جاري وما علمت له بشكوى فأتاه سعد فقال: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل هو من أهل الجنة،

وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما شأن ثابت؟ قالوا: يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه فسأله ما شأنك؟ قال: يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلّى الله عليه وسلّم: لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير

، والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي، وهو أيضا أجل من أن يكون ممن كان يقصد الاستهانة والإيذاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم برفع الصوت وهم المنافقون الذين

<<  <  ج: ص:  >  >>