بالوحي لا وحي، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحيا حقيقة، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى على العموم فإن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة لا يقول بأن ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه استمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل؟ فقيل: ما هو إلا وحي يوحيه الله عز وجل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فتأمل، وفي الكشف أن في قوله تعالى: ما يَنْطِقُ مضارعا مع قوله سبحانه: ما ضَلَّ وَما غَوى ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبىء، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم عَلَّمَهُ الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن، أو الوحي، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام شَدِيدُ الْقُوى هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع- فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة ذُو مِرَّةٍ ذو حصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل: إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوي العقل والرأي ذُو مِرَّةٍ من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين، وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال: ذو شدة في أمر الله عز وجل واستشهد له، وحكى الطيبي عنه أنه قال: ذو منظر حسن واستصوبه الطبري، وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن: وهو في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى»
بمعنى ذي قوة، وفي الكشف إن المرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فَاسْتَوى أي فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادئ النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود- ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي كلام على ما قال الخفاجي: طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل:
فهل رآه على صورته الحقيقية؟ فقيل: نعم رآه فاستوى إلخ، وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى: ما أَوْحى
بيان لكيفية التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل: إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على عَلَّمَهُ على معنى