وقرأ مجاهد «لا يصّدعون» بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣] ، وقرىء «لا يصدعون» بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة وَلا يُنْزِفُونَ قال مجاهد وقتادة والضحاك: لا تذهب عقولهم بكسرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، وقيل: وهو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد «ولا ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه صار ذا نزف ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا «ولا ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي قال: في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم، والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر عن الأجسام، والثانية لبيان نفي الضرر عن العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم، واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين، وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده مقليا نضجا، وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة.
وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك
، وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم، وأجيب بأن ذلك- والله تعالى أعلم- حالة الاجتماع والشرب، ويفعلون ذلك الإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام، وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفال به، وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب- متقلدا سيفا ورمحا- أو من بابه المعروف، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا.
ويعلم من الوجه الأول وجه تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء باللحم، وفيه إشارة إلى أن الفاكهة لم تزل حاضرة عندهم وبمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه، وقيل: وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك، وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التفعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها، والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَحُورٌ عِينٌ عطف على وِلْدانٌ أو على الضمير المستكن في مُتَّكِئِينَ أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي لهم هذا كل وَحُورٌ أو مبتدأ حذف خبره أي لهم، أو فيها حور، وتعقب الوجه الأول بأن