المفضل في رواية أيضا بالغا بالنصب «أمره» بالرفع، وخرج ذلك على أن بالغا حال من فاعل جَعَلَ في قوله تعالى:
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه، وجملة قَدْ جَعَلَ إلخ خبر إِنَّ، وجوز أن يكون بالغا هو الخبر على لغة من ينصب الجزأين- بإن- كما في قوله:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
وتعقب بأنها لغة ضعيفة، ومعنى قَدْراً تقديرا، والمراد تقديره قبل وجوده، أو مقدارا من الزمان، وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه عز وجل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر، وفيه على ما قيل: تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة، وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها.
وقرأ جناح بن حبيش «قدرا» بفتح الدال وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أي الحيض، وقرىء- ييأسن- مضارعا مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهن، وقد قدر بعضهم سن اليأس بستين سنة، وبعضهم بخمس وخمسين، وقيل: هو غالب سن يأس عشيرة المرأة، وقيل غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه فإن المكان إذا كان طيب الهواء والماء- كبعض الصحاري- يبطىء فيه سن اليأس، وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم، وهذا القول- بالغ درجة اليأس- من أن يقبل إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن شككتم وترددتم في عدتهن، أو إن جهلتم عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وجماعة عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل الله تعالى في سورة النساء القصرى وَاللَّائِي يَئِسْنَ الآية، وفي رواية أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] قالوا: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزل وَاللَّائِي يَئِسْنَ إلخ، فقال قائل: فما عدة الحامل؟
فنزل وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إلخ.
ويعلم مما ذكر أن الشرط هنا لا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم لأنه بيان للواقعة التي نزل فيها من غير قصد للتقييد، وتقدير متعلق الارتياب ما سمعت هو ما أشار إليه الطبري وغيره، وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن إلخ، وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك، وقال الزجاج: المعنى إِنِ ارْتَبْتُمْ في حيضهن وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة، وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن تيقنتم إياسهن، والارتياب من الأضداد والكل كما ترى.
والموصول قالوا: إنه مبتدأ خبره جملة فَعِدَّتُهُنَّ إلخ، وإِنِ ارْتَبْتُمْ شرط جوابه محذوف تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، والشرط وجوابه جمل معترضة، وجوز كون فَعِدَّتُهُنَّ إلخ جواب الشرط باعتبار الاعلام والإخبار كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقير، وقوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مبتدأ خبره محذوف أي واللائي لم يحضن كذلك أو عدتهن ثلاثة أشهر، والجملة معطوفة على ما قبلها، وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق وجعل الخبر لهما من غير تقدير، والمراد- باللائي لم يحضن- الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض.
واستظهر أبو حيان شموله من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لهن حيض البتة كبعض النساء يعشن إلى أن يمتن