من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة، وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحثّ على حسن العمل، ولذا
ورد:«أكثروا من ذكر ذم اللذات والحياة»
وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكر الله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك، فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر. وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطارئ وحياتكم أيها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم. وأصل البلاء الاختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز وجل وحمل الكلام على ما ذكر، ويرجع ذلك إلى الاستعارة التمثيلية واعتبار الاستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا
قال صلّى الله عليه وسلم في الآية:«أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل»
أي أيكم أتمّ فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات. والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له، وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت لوقوع فضلا عن الانتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز وجل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب، وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى. وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: ٧٣] ليس بذاك وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لِيَبْلُوَكُمْ وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم، وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا؟ قيل: فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال: إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين، وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق، وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا. والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن. وأيضا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الاستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الاستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: ٦٩] على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال