وما أحسن التقابل بين قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالاباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصه جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما. في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية، ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكي عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا إلخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبها على أن الحكمة في خلقها خدمة المعبود من حيث العدول عن لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم اهـ فتأمل. واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
صافوا بستة أبيات وأربعة ... حتى كأن عليهم جابيا لبدا
وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه «لبدا» بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما «لبّدا» بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة قُلْ إِنَّما أَدْعُوا أعبد رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ في العبادة أَحَداً فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الاطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون «قال» على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلّى الله عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه أظهر وأوقف لقوله سبحانه قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ولا نفعا تعبيرا باسم السبب عن المسبب، والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عزّ وجلّ أو لا أملك لكم غيّا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي «غيّا» بدل ضَرًّا والمعنى لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الاحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر. وقرأ الأعرج «رشدا» بضمتين قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أرادني سبحانه بسوء وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا:
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه صلّى الله عليه وسلم عن شؤون غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك فقيل له قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ وقيل هو جواب لقول ورد أن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من مفعول لا أَمْلِكُ كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذلك فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أنفعكم كان استثناء متصلا كأنه