الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة المجيء من بلد، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال:
لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي فيقول: إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ الحسن- ولا يضار- بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم فَإِنَّهُ أي ذلك الفعل فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن طاعة متلبس بكم، وجوز كون الباء للظرفية، قيل: وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمنة لمصالحكم وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله: فما للنوى جذ النوى قطع النوى حتى قيل: سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وما في البيت من القسم الثاني لأن- جذ النوى قطع النوى- فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن اتَّقُوا اللَّهَ حث على تقوى الله تعالى وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد بإنعامه سبحانه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعظيم لشأنه عز شأنه، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل اتَّقُوا أي اتقوا الله مضمونا لكم التعليم، ويجوز أن تكون حالا مقدرة، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب لكم حسبما بين قبل، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال.
وقرأ أبو العالية كتبا، والحسن، وابن عباس- كتابا جمع كاتب فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم، أو فليؤخذ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول- وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان
لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري
- بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي:
فالخبز واللحم لهن راهن ... وقهوة راووقها ساكب
وفي التعبير- بمقبوضة- دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ- فرهن- كسقف وهو جمع رهن أيضا، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن، وقرأ أبي- فإن أو من- أي أمنه