من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها. والصَّاخَّةُ هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية، ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو الإسناد. وقال الراغب الصَّاخَّةُ شدة صوت ذي النطق، يقال: صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا. وقيل: مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه. وقال الخليل: هي صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها لشدة وقعتها، ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله الصَّاخَّةُ هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله:
أصم بك الداعي وإن كان أسمعا ثم قال: ولعمر الله تعالى إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. والكلام في جواب (إذا) وفي يَوْمَ من قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَبَنِيهِ على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم.
ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب فَإِذا والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم:«يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» قلت: يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال:«شغل الناس عن ذلك» وتلا يَوْمَ يَفِرُّ الآية
.
وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: ما شغلهم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم:«نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل»
. وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك، والأبوان قصرت في برنا، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال: ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة. ثم قرأ يَوْمَ يَفِرُّ الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال المرأة من باب أولى. وقيل: هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في صاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فقال: تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه، ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك.
وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلّى الله عليه وسلم من أمه، ويفر إبراهيم عليه السلام من أبيه، ويفر نوح عليه السلام من ابنه، ويفر لوط عليه السلام من امرأته. وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك