الصلاة والسلام كأنه سبحانه يقول: انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق؟ والقولان مبنيان على أن المراد بالضحى النهار كله وبالليل إذا سجى جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت أولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب. وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك: أنه تعالى أقسم له صلّى الله عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة والسلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزيد قربه وأنسه، أما الضحى فلما
رواه الدارقطني في المجتبى عن ابن عباس مرفوعا: «كتب عليّ النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها»
. وأما الليل فلقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: ٧٩] إرغاما لأعدائه وتكذيبا لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنّا اصطفيناك وما هجرناك وقليناك فهو كقوله:
وثناياك إنها إغريض وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الإقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضا وكذا الإقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى. وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار وبالليل جميعه قيل إن التفرقة للإشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللإشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها.
وقد روي أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت عن يساره غمامة فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فأمطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى إتمام ثلاثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر السرور ساعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا
والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ إلخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، ثم صار متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا أي ما تركك ربك. وفي البحر والكشاف:
التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك، قيل: وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية، أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] فتدبر. وقيل: إن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعارة تبعية للترك وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيّع
وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة هاهنا، وتعقب بأنه على هذا لا يكون ردّا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلّى الله عليه وسلم فيه من ربه سبحانه؟ وقيل في الجواب: إنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلّا أنهم قاتلهم