وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي «من كل امرئ» بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به مما قدر في تلك الليلة، ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل مصلحته من الاستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امرئ مؤمن على ما قيل. وقيل الجار متعلق ب سَلامٌ والمراد «بكل امرئ» الملائكة عليهم السلام أي سلام وتحية هي على المؤمنين من كل ملك، وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه «مطلع» بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر قياس يفعل مكسور العين. وفي البحر قيل «مطلع ومطلع» بالفتح والكسر مصدران في لغة تميم. وقيل: المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز انتهى. وإرادة الموضع هاهنا لا موضع لها كما لا يخفى هذا. واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة وهي أحد أوقات الإجابة.
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال:«قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»
. ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها. وقال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحبّ من الصلاة، ثم أفاد أنه إذا قرأ ودعا كان حسنا وكان صلّى الله عليه وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ فيها قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلّا سأل ولا بآية عذاب إلّا تعوذ. وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح.
وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر»
.
وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجويه والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال:«من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها.
وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى. والظاهر أنه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلّا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده. وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب: إن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلّا نبينا صلّى الله عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة والسلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها، وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنسيها صلّى الله عليه وسلم وأمر بطلبها في ليالي العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده صلّى الله عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى. وحديث أنه صلّى الله عليه وسلم رآها ونسيها قد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته، لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلّى الله عليه وسلم أبدا ترددا، ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذا ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلّى الله عليه وسلم
ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»
وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط. ففي شرح الصحيح للنووي: