أي إلّا بأن يعبدوا الله وأيّد بقراءة عبد الله إلّا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي: هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز وجل فالدين مفعول لمخلصين، وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول مُخْلِصِينَ محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين. وقرأ الحسن «مخلصين» بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول. نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل لِيَعْبُدُوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه، فالحنف الميل إلى الاستقامة وسمي مائل الرجل إلى الاعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين. وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا. وعن قتادة بمختتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم السلام. وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام، وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها وَذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الكتب القيمة فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني. وقال الزجاج: أي الأمة القيمة أي المستقيمة. وقال غير واحد: أي الملة القيمة والتغاير الاعتباري بين الدين والملة يصحح الإضافة، وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل الْقَيِّمَةِ بمعنى الملة وقيل أي الحجج القيمة. وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه «الدين القيمة» فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل الهاء للمبالغة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم، فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل. ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به. وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب. وجوزت الاستعارة وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلّا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان، فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب، والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب، وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول الله صلّى الله عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب