الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد «هم خيار البرية» وهو جمع خير كجياد وجيد جَزاؤُهُمْ بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً تقدمت نظائره. وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما، وتأكيد الخلود بالأبد من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى. والظاهر أن جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلّة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر. وقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف نحوي وإخبار عمل تفضل عز وجل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم، ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلِكَ أي ما ذكره من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي. وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر، بل الموصل له خشية الله تعالى وإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] ولذا قال الجنيد قدس سره: الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين: الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح، وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ لقوله تعالى ذلِكَ إلخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. واستدل بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر، وفي الآثار ما يدل على ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا:«أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤوا إن شئتم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى؟ قال: يا عائشة أما تقرئين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»
وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا ليتم الاستدلال ثم إنه يحتاج أيضا إلى إدخال الأنبياء عليهم السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هم يكفرون من يقول به فليتفطن. والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث، ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيّز المنع. ثم الظاهر أن المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا إلخ مقابل الَّذِينَ كَفَرُوا والأقوم من الذين