فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الذي يرجع إليه إلا الله ويعلمه الراسخون في العلم- الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على إِلَّا اللَّهُ والوقف على الرَّاسِخُونَ وَما يَذَّكَّرُ بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي للقوابل حسب القابليات رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ على اختلاف مراتبهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء، هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل: وفد نجران، أو اليهود من قريظة والنضير، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أو مشركو العرب لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تنفعهم، وقرئ بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين أَمْوالُهُمْ التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح وَلا أَوْلادُهُمْ الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي- كما قال الشيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب مِنَ اللَّهِ أي من عذابه تعالى- فمن- لابتداء الغاية كما قال المبرد، وقوله تعالى: شَيْئاً نصب على المصدرية أي شيئا من الإغناء، وجوز أن يكون مفعولا به لما في «أغنى» من معنى الدفع ومِنَ للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا، وأن يكون مفعولا ثانيا بناء على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه، وقال أبو عبيدة: مِنَ هنا بمعنى عند وهو ضعيف، وقال غير واحد: هي بدلية مثلها في قوله:
فليت لنا «من» ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان
ومن ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ [الزخرف: ٦٠] والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة الله تعالى، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته.
وقريب من ذلك قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: ٣٧] واعترض بأن أكثر النحاة- كما في البحر- ينكرون إثبات البدلية- لمن- مع أن الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وكذا بما بعد، والوقود- بفتح الواو- وهي قراءة الجمهور-