فعلى هذا الإنكار على القوم ليس في محله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقاب نفسه- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل: النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي تسروا ما في قلوبكم من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفار، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه فيما بينكم.
يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم إخفاؤه، وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مرت الإشارة إلى سره وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا، والجملة مستأنفة غير معطوفة على جواب الشرط.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير، فكأنه سبحانه قال:- ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها- والإظهار في مقام الإضمار لما علمت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المكلفة.
ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ وإن كان مثقال ذرة مُحْضَراً لديها مشاهدا في الصحف، وقيل:
ظاهرا في صور، وقيل: تجد جزاء أعمالها محضرا بأمر الله تعالى، وفيه من التهويل ما ليس في- حاضرا- وهو مفعول ثان لتجد وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ عطف على ما عَمِلَتْ ومُحْضَراً محضر فيه معنى إلا أنه خص بالذكر في- الخير- للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية- كما قال شيخ الإسلام- وتقدير مُحْضَراً في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز- كما في الدر المصون- ولم يجعلوه من قبيل- علمت زيدا فاضلا وعمرا- وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول من قبيل- زيد قائم. وعمرو- وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به فيلزم الاقتصار ضرورة، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا الباب وهم، ولك أن تجعل تَجِدُ بمعنى تصيب فيتعدى لواحد، ومُحْضَراً حال تَوَدُّ أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى يوم ذلك.
لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي بين ذلك اليوم أَمَداً بَعِيداً وقيل: الضمير- لما عملت- لقربه ولأن اليوم أحضر فيه الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع الضمير- اليوم- وإلى ذلك ذهب في البحر، ورد بأنه أبلغ لأنه يودّ البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما فيه من السوء، والأمد- غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة- ولعله الأظهر- فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨] وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال أبو حيان: إن الظاهر في بادئ الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل