فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكرا فحاضت من ساعتها فلما ظهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها: أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى- والأنثى عورة- فكيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك:
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الأنثى فيكون المعنى- رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله ذكرا على حد أعتق عبدك عني- وجعله بعض الأئمة تأكيدا لنذرها إخراجا عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من لَكَ للتعليل، والمراد لخدمة بيتك- والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة الكنيسة- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقال مجاهد: المحرر الخادم للبيعة، وفي رواية عنه الخالص الذي لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: أرادت عتيقا خالصا لطاعتك لا أصرفه في حوائجي، وعلى كل هو من الحرية- وهي ضربان- أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية.
وانتصابه على الحالية من ما والعامل فيه نَذَرْتُ وقيل: من الضمير الذي في الجار والمجرور والعامل فيه حينئذ الاستقرار- ولا يخفى رجحان الوجه الأول- والحال إما مقدرة أو مصاحبة، وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أي- تحريرا- لأنه بمعنى النذر، وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء، والتقبل- أخذ الشيء على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء- وتقبل- هنا بمعنى اقبل إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لسائر المسموعات فتسمع دعائي الْعَلِيمُ بما كان ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال- قاله شيخ الإسلام- وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها ليست كتعلقات صفة العلم في الكثرة فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير- لما- ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكرا، وأما التأنيث في قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة، وأُنْثى حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى «ما» نظرا إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث- كالنفس، والحبلة، والنسمة- فلا يشكل التأنيث ولا يلغو أُنْثى حال مبينة- كذا قيل- ولا يخلو عن نظر، فالحق أن الضمير لما- في بطني- والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه بترتب جواب (لما) لا على وضع ولد ما، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل، وأُنْثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن، وقد قال الإمام المرزوقي: إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الاخبار كما في قوله:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت «يصيبني سهمي»
فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، وحاصل المعنى هنا على ما قرر- فلما وضعت بنتا تحسرت إلى