فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا وأهلكهم، ولذا خص آدم بالذكر ونوحا والآلين، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما وسلم إذ إبراهيم لم يغلب، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سيغلب- وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفي وجه التخصيص- وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى.
وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة- ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن- وأيضا حمل آل عمران على موسى. وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت، وكأن القائل لما لم يتيسير له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق.
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نصب على البدلية من الآلين أو الحالية منهما، وقيل: بدل من «نوح» وما بعده، وجوز أن يكون بدلا من آدَمَ وما عطف عليه، ورده أبو البقاء بأن آدم ليس بذرية، وأجيب بأنه مبني على ما صرح به الراغب وغيره من أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق، والأب ذرئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب إلا أن المتبادر من الذرية النسل- وقد تقدم الكلام عليه.
والمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة البعض من البعض في النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونهم ذرية، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه- واختاره الجبائي- وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في النية والعمل والإخلاص والتوحيد، ومِنْ على الأول ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثاني اتصالية والاستمالة برهانية، وقيل: هي اتصالية فيهما وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ بأفعالهم وما تكنه صدورهم فيصطفي من يشاء منهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته، والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت قولها، وقيل: هو منصوب على الظرفية لما قبله، وهو سَمِيعٌ عَلِيمٌ على سبيل التنازع أو- السميع- ولا يضر الفصل بينهما بالأجنبي لتوسعهم في الظروف، وقيل: هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه- باصطفى- المذكور كأنه قيل: واصطفى آل عمران إِذْ قالَتِ إلخ فكان من عطف الجمل على الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت، وامْرَأَتُ عِمْرانَ هي حنة بنت فاقوذا- كما رواه إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحاكم عن أبي هريرة- وهي جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة والسلام- هي أم يحيى- فعيسى ابن بنت خالة يحيى- كما ذكر ذلك غير واحد من الأخباريين- ويشكل عليه ما
أخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:«فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحي بن زكريا»
وأجاب صاحب التقريب بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، والغرض أن بينهما عليهم الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة الخئولة، وقيل: كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم، وفيه أنه مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض