ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل وإن قلنا: إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الإشكال، وجاء مَعَ الرَّاكِعِينَ دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة رؤوس الآي، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا: إنها مأمورة بصلاة الجماعة.
وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاء بالتقييد من أول وهلة، وقال شيخ الإسلام: إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ واركعي واسجدي في الساجدين ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: نُوحِيهِ إِلَيْكَ جملة مستقلة مبينة للأولى، والإيحاء- إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في نُوحِيهِ عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها، مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ إما متعلق- بنوحيه- أو حال من مفعوله أي نُوحِيهِ حال كونه بعض أَنْباءِ الْغَيْبِ وجعله حالا من المبتدأ رأى البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير الأمر ذلِكَ فيكون ذلِكَ خبرا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل.
وصيغة الاستقبال عند قوم للايذان بأن الوحي لم ينقطع بعد وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الإخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن «تلك» هي المقصودة بالأخبار أولا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع، والأقلام- جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة واختاروها تبركا بها، وقيل: هي السهام من النشاب وهي القداح، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي- وفي عدة الأقلام خلاف-
وعن الباقر أنها كانت ستة،
والظرف معمول للاستقرار العامل في لَدَيْهِمْ وجعله ظرفا لكان- كما قال أبو البقاء- ليس بشيء