وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له.
والقنوت إطالة القيام في الصلاة- قاله مجاهد- أو إدامة الطاعة- قاله قتادة- وإليه ذهب الراغب، أو الإخلاص في العبادة- قاله سعيد بن جبير- أو أصل القيام في الصلاة- قاله بعضهم- والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلة وجوب امتثال الأوامر وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلا تقريرا ليس في الإجمال، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في صلاتهم، وقيل: لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع،
وفي الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن ارْكَعِي- بالراكعين- للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين، وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة، أما أولا فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام الشافعي، وأما الثاني فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة، وأما الثالث فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين؟ وكأن وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال:
ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ واعترضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع، وقيل: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَاسْجُدِي يحصل ذلك المقصود، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك، وقيل: المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: ٤٠] والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة، والاحتمال الأول هو الظاهر، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الأوزاعي قال:«كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها» وما
أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال:«كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها»
والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه: مَعَ الرَّاكِعِينَ الإرشاد إلى صلاة الجماعة، وإليه ذهب الجبائي، وذكر بعض المحققين أن نكتة التعبير بذلك في هذا المقام دون- واسجدي مع الساجدين- الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك ركعة من الصلاة، وعورض بأنه لو قيل:- واسجدي مع الساجدين- لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك الجماعة، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام، واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند المنصفين، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب الكشاف، وزعم بعضهم أن مَعَ مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع- أي افعلي كفعل الرَّاكِعِينَ وإن لم توقعي الصلاة معهم- قال: لأنها كانت تصلي في محرابها، وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل من غير داع، وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا يدل على المدعى، ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعى أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب، وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا، على أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة، وقلنا: بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا، وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم، ولذلك اختصموا في ضمها وإمساكها، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب،