مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث، ثم ما قاله الشهاب- إن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة، وفيهم أحبار اليهود، ووفد نجران، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث،
فقد أخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال:«سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني»
من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم إلا أن يقال: إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه، أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب- وما ذكره ابن الحرث- لا يدل على علمهم كما لا يخفى، وقيل: إن مراد اليهود بقولهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به، وأن مراد النصارى بقولهم: إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم، والمفخر العظيم، والمنة الكبرى أَفَلا تَعْقِلُونَ ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا:
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم هؤُلاءِ الحمقى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ كأمر موسى، وعيسى عليهما السلام فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى. وعيسى قبل بعثتيهما أصلا، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشاراته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر، ولا رمز له في كتابكم البتة؟! وها حرف تنبيه، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو- ها أنا ذا- وكررت هنا للتأكيد، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاء، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاء في كلامهم إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة. وهمزة أَنْتُمْ لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء، والإشارة للتحقير والتنقيص، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل، وجملة حاجَجْتُمْ مستأنفة مبينة للأولى، وقيل: إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو- ها أنا ذا قائما- وهذه الحال لازمة وقيل: إن الجملة غبر عن أَنْتُمْ وهؤُلاءِ منادى حذف منه حرف النداء، وقيل: هؤُلاءِ بمعنى الذين خبر المبتدأ، وجملة حاجَجْتُمْ صلة وإليه ذهب الكوفيون، وقراؤهم يقرؤون ها أَنْتُمْ بالمد والهمز، وقرأ أهل المدينة، وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن، وقرأ ابن كثير.
ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز وَاللَّهُ يَعْلَمُ حال إبراهيم وما كان عليه.
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر فقال سبحانه: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا كما قالت اليهود وَلا نَصْرانِيًّا كما قالت النصارى وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن العقائد الزائغة مُسْلِماً