مبتدأ ثان، وقوله عز شأنه: أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل: وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خباثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم- كشارب خمر معين مثلا مشهور- والنووي على جوازه استدلالا بما
ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا
وبما
صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها،
وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضا، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك- والاحتياط لا يخفى- والمراد من- الناس- إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق، وإن لم يكن غير متبع بناء على زعمه خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في عَلَيْهِمْ والعامل فيه الاستقرار، والضمير المجرور- للعنة- أو للعقوبة، أو للنار، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاء بدلالة اللعنة عليها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم، والجملة إما مستأنفة، أو في محل نصب على الحال.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان وَأَصْلَحُوا أي دخلوا في الصلاح بناء على أن الفعل لازم من قبيل- أصبحوا- أي دخلوا في الصباح، ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف- أي أصلحوا ما أفسدوا- ففيه إشارة كما قيل: إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم، فالظاهر أنه ليس تقييدا بل بيان لأن يصلح ما فسد. وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها، فالمآل واحد عند التحقيق.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فيغفر كفرهم ويثيبهم، وقيل: غَفُورٌ لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم «رحيم» بهم في الآخرة بالعفو عنهم- ولا يخفى بعده- والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال عطاء وقتادة: نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن، وقيل: في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصد عن السبيل، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: في أصحاب الحارث بن سويد فإنه لما رجع قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث، وقيل: في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الإسلام، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانئ.
وكُفْراً تمييز محول عن فاعل، والدال الأولى في ازْدادُوا بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال الحسن، وقتادة، والجبائي: لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب، وإنما كانت نفاقا، وقيل: إن هذا من قبيل ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية- كما قال العلامة- دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى، وقيل: إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع