إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: هؤلاء اليهود. والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول.
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عطف إما على خبر إِنَّ فمحلها الرفع، وإما على إِنَّ مع اسمها فلا محل لها، والضَّالُّونَ المخطئون طريق الحق والنجاة، وقيل: الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم أيضا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي على كفرهم.
فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ من مشرقها إلى مغربها ذَهَباً نصب على التمييز، وقرأ الأعمش- ذهب- بالرفع، وخرج على البدلية من مِلْءُ أو عطف البيان، أو الخبر لمحذوف، وقيل: عليه إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة، وجعله خبرا إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة، أو حالا ولا يخلو عن ضعف، ومِلْءُ الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه، وأما مِلْءُ بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة وهنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر إِنَّ هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهرا؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر، وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال: من جاءني له درهم كان إقرارا بخلاف ما لو قرنه بالفاء- كما هو معروف بين الفقهاء- ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول
وقد فصل ذلك في المعاني وقرئ- «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض» - على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب- ملء ومل الأرض- بتخفيف الهمزتين وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال ابن المنير في الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك: أكرم زيدا ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره- أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء- إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى ومنه كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: ١٣٥] فإن معناه- والله تعالى أعلم- لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه: وَلَوِ افْتَدى بِهِ يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم- بملء الأرض ذهبا- هي أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها- خاض المفسرون بتأويلها- فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الأول: أن عدم قبول- ملء الأرض- كناية عن عدم قبول فدية ما لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويرا للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف، وفي الضمير يراد مِلْءُ الْأَرْضِ على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى- بملء الأرض ذهبا- ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها، وحاصل الثاني: إن المراد