ألما لذة. والثاني أن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلا وهذا صعبا وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان، ويجاب أما عن الأول بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلا للمكسوب والتحصيل لكونه قائما بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعا ولهذا
قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب»
والمقارنة لكونها أمرا مرتبا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلا، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرا في العبد إلخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف، وأما عن الثاني فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر: ٨٢] وقوله سبحانه: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً [غافر: ٢١] وقوله عز شأنه: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: ٨] وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق، والله تعالى الموفق لا رب غيره.
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما
أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا»
ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناء على ما
أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة «أنه لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: ٨٥] الآية قال اليهود: فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل وَمَنْ كَفَرَ» الآية.
ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال: إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه وَمَنْ كَفَرَ إلخ
وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية: وَمَنْ كَفَرَ بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما،
وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله من تركه كفر؟ قال: من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك،
وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، ومَنْ تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغني فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم.
ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفي عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والاستغناء