فقد أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال: «قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب هرقل، وفيه: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟
ولعل المقصود من الجواب إسقاط المسألة وبيان أن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء، وإلى ذلك يشير خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن العرض هاهنا ليس مقابل الطول بل هو من قولك عرضت المتاع للبيع، والمعنى أن ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شيء وإن عظم، فالعرض بمعنى ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع وربما يستغني على هذا عن تقدير ذلك المضاف، ولا يخفى أنه على ما فيه من البعد خلاف المأثور عن السلف الصالح من أن المراد وصفها بأنها واسعة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي هيئت للمطيعين لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضا لأن المجانين مثلا لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى.
وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وإن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع، ولعلها الفردوس المصرح بها في
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس»
وفيه تأمل، والآية ظاهرة في أن الجنة مخلوقة الآن كما يدل عليه الفعل الماضي، وجعله من باب وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: ٩٩، يس: ٥١، الزمر: ٦٨، ق: ٢٠] خلاف الظاهر ولا داعي إليه كما بين في محله، ومثل ذلك أُعِدَّتْ السابق في حق النار، وأما دلالة الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناء على أنها تقتضي أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما يرشدك إليه النظر فيما تقدم.
والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة، وجوز أن تكون في موضع نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت، وجوز أيضا أن تكون مستأنفة قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أمور: أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على ضعفه، والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل المسافة، والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في محل الجرّ على أنه نعت للمتقين مادح لهم، وقيل: مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل أو رفع على إضمار هم ومفعول يُنْفِقُونَ محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم: فلان يعطي.
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي في اليسر والعسر قاله ابن عباس وقيل: في حال السرور والاغتمام، وقيل: في الحياة وبعد الموت بأن يوصي، وقيل: فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء، وقيل:
في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر، والمتبادر ما قاله الحبر، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي إنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل. وقد روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدقت بحبة عنب، وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة،
وفي الخبر «اتقوا النار ولو بشق تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق»
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أصل الكظم شدّ رأس القربة عند امتلائها، ويقال: فلان كظيم أي ممتلئ حزنا، والْغَيْظَ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل: إن الغضب يتبعه إرادة الانتقام البتة، ولا كذلك الغيظ، وقيل: