وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على وجه الاستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام، والقراءة المشهورة قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا، وقرئ بالأخير إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ أي أسبابهما من الأعمال الصالحة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء الفرائض، وعن ابن عباس إلى الإسلام، وعن أبي العالية إلى الهجرة، وعن أنس بن مالك إلى التكبيرة الأولى، وعن سعيد بن جبير إلى أداء الطاعات، وعن يمان إلى الصلوات الخمس وعن الضحاك إلى الجهاد، وعن عكرمة إلى التوبة، والظاهر العموم ويدخل فيه سائر الأنواع، وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية، وقيل: لأنها كالسبب لدخول الجنة، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع نعتا- لمغفرة- والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها من الرب دون الجنة تعظيما لأمرها وتنويها بشأنها وسبب نزول الآية على ما
أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبي رباح «أن المسلمين قالوا: يا رسول الله بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة داره اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم»
والتنوين في مغفرة للتعظيم ويؤيده الوصف، وكذا في جَنَّةٍ ويؤيده أيضا وصفها بقوله سبحانه: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ والمراد كعرض السموات فهو على حد قوله:
حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق
فإنه أراد كصوت عناق، والعرض أقصر الامتدادين، وفي ذكره دون ذكر الطول مبالغة، وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه وتقدير المضاف فليس المقصود تحديد عرضها حتى يمتنع كونها في السماء بل الكلام كناية عن غاية السعة بما هو في تصور السامعين، والعرب كثيرا ما تصف الشيء بالعرض إذا أرادوا وصفه بالسعة، ومنه قولهم: أعرض في المكارم إذا توسع فيها، والمراد من السَّماواتُ وَالْأَرْضُ السموات السبع والأرضون السبع، فعن ابن عباس من طريق السدي أنه قال: تقرن السموات السبع والأرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها ببعض فذاك عرض الجنة، والأكثرون على أنها فوق السموات السبع تحت العرش وهو المروي عن أنس بن مالك، وقيل: إنها في السماء الرابعة وإليه ذهب جماعة، وقيل: إنها خارجة عن هذا العالم حيث شاء الله تعالى، ومعنى كونها في السماء أنها في جهة العلو ولا مانع عندنا أن يخلق الله تعالى في العلو أمثال السموات والأرض بأضعاف مضاعفة. ولا ينافي هذا خبر أنها في السماء الرابعة إن صح، ولا ما حكي عن الأكثر لأن ذلك مثل قولك: في الدار بستان إذا كان له باب منها يشرع إليه مثلا فإنه لا ينافي خروج البستان عنها، وعلى هذا التأويل لا ينافي الخبر أيضا كون عرض الجنة كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الحديد: ٢١] من غير حاجة إلى القول بأنه ليس المراد من السَّماواتُ السموات السبع كما قيل به.
ومن الناس من ذهب إلى أنها في السماء تحت العرش أو الرابعة إلا أن هذا العرض إنما يكون يوم القيامة حيث يزيد الله تعالى فيها ما يزيد.
وحكي ذلك عن أبي بكر أحمد بن علي قيل: وبذلك يدفع السؤال بأنه إذا كان عرض الجنة «كعرض السماء والأرض» فأين تكون النار، ووجه الدفع أن ذلك يوم القيامة، وأما الآن فهي دون ذلك بكثير، ويوم يثبت لها ذلك لا تكون فيه السموات والأرض كهذه السموات والأرض المشبه بعرضهما عرضها، ولا يخفى أن القول بالزيادة في السعة يوم القيامة وإن سلم إلا أن كونها اليوم دون هذه السموات والأرض بكثير في حيز المنع ولا يكاد يقبل، والسؤال المذكور أجاب عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير ذلك.