المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف وما- موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل، وإن جعلا للبعض الباقين بعد قتل الآخرين- وهو الأنسب- كما قيل:
بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء- فهي عبارة عن ذلك أيضا مع ما اعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن، هذا على القراءة المشهورة، وأما على القراءتين الأخيرتين أعني «قتل. وقتّل» - على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد قالوا: إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتما والكلام حينئذ من قبيل- قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم يستأصلهم- وإن أسند إلى الضمير كما هو الظاهر الأنسب عند البعض بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإليه ذهب قتادة والربيع وابن أبي إسحاق. والسدي- كما قيل- فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال وَما ضَعُفُوا أي ما فتروا عن الجهاد قاله الزجاج، وقيل: ما عراهم ضعف في الدين بأن تغير اعتقادهم لعدم النصر وَمَا اسْتَكانُوا أي ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة، وقيل: ما خضعوا لعدوهم، وإليه يشير كلام ابن عباس، وكثيرا ما يستعمل استكان بهذا المعنى، وكذا بمعنى تضرع، واختلف فيه هل هو من السكون فوزنه افتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للإشباع وهو كثير وليس بخطأ خلافا لأبي البقاء، ولا يختص بالشعر خلافا لأبي حيان، أو من الكون فوزنه استفعل وألفه منقلبة عن واو السين مزيدة للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره، وقيل: لأنه كالعدم فهو يطلب من نفسه الوجود.
وجوز أن يكون من قول العرب: بات فلان- بكينة سوء- أي بحالة سوء، أو من- كان يكينه- إذا أذله، وعزي ذلك إلى الأزهري وأبي علي، وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء، والجمهور على فتح الهاء من وَهَنُوا وقرئ بكسرها وهي لغة والفتح أشهر، وقرئ بإسكانها على تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم.
والمراد بالصابرين إما الربيون، والإظهار في موضع الإضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا.
والجملة على التقديرين تذييل لما قبلها، وقوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية، وهو معطوف على ما قبله، وقيل: كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية، وقَوْلَهُمْ بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من أَنْ وما بعدها في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي- ما كان قولهم- في ذلك المقام واشتباك أسنة الشدائد والآلام إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي صغائرنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا عن الحد، والمراد كبائرنا. وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: الإسراف تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير، وقيل: إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم.
والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لأنفسهم واستقصارا لهمهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء، وفيه ما لا يخفى، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي عند جهاد أعدائك بتقوية